المستعرب الياباني نوتوهارا : تعلمت من البدو

يتحدث المستعرب الياباني “نوبوأكي نوتوهارا” في كتابه “العرب .. وجهة نظر يابانية” عن البدو من خلال دراستة الجامعية للغة العربية في اليابان ثم رحلاته لبادية الشام ومصر والمغرب , ونُشر الكتاب لأول مرة في يناير 2003 , و”نوتوهارا” كاتب ومترجم ياباني , من مواليد طوكيو 1940 خريج جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية ثم مدرسا للأدب العربي المعاصر فيها , أهتم بالأدب العربي والثقافة العربية , عاش في اليابان أربعين عاما حيث كان مدرسا للغة العربية ، يسرد لنا بعضا من أفكاره التي كانت تراوده عندما كان يلف العواصم العربية ليدَرس اللغة العربية.
تكلم الكاتب عن حياة البدو وثفافتهم , وأبدى أعجابه بشخصية أهل الصحراء ، فهو لا يعتبرهم جهلة أو أُمّيّين , بل يعتقد أن حياة الصحراء علّمتهم الحكمة والصبر على قسوة المعيشة ، ويقول أن قسوة الطبيعة علمت البدوي التوحيد، فمهما كانت قاسية معه ودمرت جسده فلا تستطيع تدمير عقيدته وأخلاقه، والبداوة علمتهم القوة ولكن القوة الأولى هي قوة الله ثم قوة أنفسهم.. عقيدتهم نقية وسلسة لا يسعون نحو التملك والتنمية…. عندهم الماء والنار والعشب هي ملكية عامة لأنها من الله، الشرف عندهم عقيدة، يحمون ويوقرون الضيف، عندهم شجرة النسب عظيمة.
يبدأ “نوتوهارا” سرده الجميل , بقوله “عندما انتهت الحرب العالمية الثانية ، كنت في عامي الخامس ، ولقد رأيت اليابان مهزومة وعشت مع أسرتي نواجه مصيرنا بلا أي عون. كنا لا نملك شيئاً أمام الجوع والحرمان وظروف الطقس وغيرها. ولقد رافقت عملية إعادة البناء، كنت أعيش مع عائلتي في طوكيو وطوكيو هدمت بالكامل حياً حياً شارعاً شارعاً , في الأيام الأخيرة من الحرب , عرفت هذا كله وعرفت أيضاً نتائج مسيرة تصحيح الأخطاء وأنا نفسي استمتعت بثمار النهوض الاقتصادي الياباني.
بعدئذ سافرت إلى البلدان العربية وكانت قد تجاوزت الثلاثين من عمري ورأيت وقرأت وتحدثت إلى الناس في كل مكان نزلت فيه. لقد عانيت بنفسي غياب العدالة الاجتماعية وتهميش المواطن وإذلاله وانتشار القمع بشكل لا يليق بالإنسان وغياب أنواع الحرية كحرية الرأي والمعتقد والسوك وغيرها.
كما غرفت عن قرب كيف تضحي المجتمع بالأفراد الموهوبين والأفراد المخلصين ، ورأيت كيف يغلب على سلوك الناس عدم الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع وتجاه الوطن ولذلك كانت ترافقني أسئلة بسيطة وصعبة : لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم ؟ لماذا لا ينتقد العرب أخطاءهم؟ لماذا يكرر العرب الأخطاء نفسها ؟ نحن نعرف أن تصحيح الأخطاء يحتاج إلى وقت قصير أو طويل. فلكل شيء وقت ولكن السؤال هو: كم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطاءهم، ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟!
ويوجه الكاتب حديثه للقارئ العربي “باختصار أريد أن أقول للقارئ العربي رأياً في بعض مسائله كما أراها من الخارج كأي أجنبي عاش في البلدان العربية وقرأ الأدب العربي وأهتم بالحياة اليومية في المدينة والريف والبادية” , ويتابع “إن شهادة نوتوهارا ـ الذي عاش بين العرب نحو أربعين عاماً وشاهد الثقافة البدوية والحضرية، والذي يتحدث العربية كعربي، والذي تابع الأعمال الأدبية العربية وترجمها إلى اليابانية ـ هي على حد علمي أول شهادة يابانية كتبت عن العرب بلغتهم الخاصة…”
وتحت عنوان “ما تعلمته من ثقافة البدو”
“ذكرت منذ البداية انني فقدت اهتمامي بثقافة المدينة وثقافة المستقرين واتجهت الى ثقافة البدو. لقد تعلمت من ثقافة البدو اشياء كثيرة كانت جديدة وفريدة بالنسبة لي لذلك لا بد ان اوضح موقفي قليلا لم اذهب الى الصحراء وادب الصحراء العربية بحثا عن الغرابة بل ذهبت باحثا عن المعنى. ومن البادية حاولت أن أدخل الى ثقافة البداوة بلا أفكار مسبقة جاهزة. أنا أعرف كيف صور بعض المستشرقين الغربيين الحياة في البادية ، وأعرف ايضا الصورة السطحية العدوانية التي تقدمها السينما العالمية عن العرب ، ولذلك كنت حذرا من الاعلانات الدجالة التي يتداولها الناس عن الحياة العربية”
“لقد عرفت حياة الفلاحين في مصر، وعرفت الحياة في القاهرة لذلك اكتشفت في وقت مبكر مدى التضليل الذي مارسه الاعلام الغربي ضد العرب ليست حياة البدو بالنسبة لي موضوعا سياحيا ولا ترفا ان اهتمامي بثقافة المكان الصحراوي في صميمه بحث عن الجوهري أو بحث عن الحقيقة نحن غارقون في ثقافة الاستقرار ومنغلقون تجاه الثقافات التي لا تشبه ثقافتنا ولذلك فنحن لا نعرف الآخر معرفة صحيحة هذه الحقيقة أراها في كل مكان في اليابان واوروبا والبلدان العربية ايضا . ان العالم المتقدم صناعيا ينظر بتعال ثقافي الى ثقافات الشعوب المتخلفة صناعيا . وحتى في البلدان العربية – بكل أسف – ينظر بعض المثقفين – ان لم أقل معظمهم – بتعال الى ثقافة البدو المدينيون عموما يجهلون ما عدا ثقافة الاستقرار. ولذلك كله اقدم هنا بعضا مما تعلمته من البدو لعله يجد من يشاركني فيه ولو من بعيد”
وفي فقرة حملت سؤالاً “من هم البدو؟”
يجيب “نوتوهارا” على سؤاله “عندما أتكلم عن البدو فانني أبدأ دائما – في عقلي – بالمقارنة مع حياة اليابانيين وحياة الفلاحين في مصر بصورة خاصة البدو كما هو شائع، اهل الوبر، اما المستقرون فهم اهل المدر. وحياة البدو تتم في البادية وهذا ما يدعى بداوة، أي أن الفرد يعرض نفسه للطبيعة بلا غطاء وكما هو معروف يسكن البدوي في الخيمة والخيمة ليست حاجزا بينه وبين الطبيعة والبدوي ينتقد الفلاحين وسكان المدن ويسخر منهم ويعتبرهم جبناء يحتمون بالجدران”
–
والابواب المقفلة. أي يحتمون بالاشجار والخشب بينما البدوي يحيا بلا حماية سوى شجاعته وصلابته فهولا يستقر في مكان من جهة وهو يقف امام الطبيعة وجها لوجه بلا حواجز. هاتان النقطتان جوهريتان في حياة البدو والطبيعة حيث يعيش البدو قاسية للغاية، لذلك هجرها معظم بني البشر لانها غير مناسبة لحياة الانسان المؤمن بالاستقرار والراحة. ولكن البدو اختاروا هذا المكان واصروا على الحياة فيه، وقدموا ويقدمون باستمرار التضحيات المترتبة على هذا
الاختيار. من المعروف ان البدو يهاجرون دائما بحثا عن الماء والعشب. فالعشب مهم جدا لانه مصدر الحياة بالنسبة للبدو والمهم في ذلك فيما ارى – ان تلك الحياة رسخت عند البدوي الشعور بعدم ضرورة الملكية ان التنقل الدائم يفرض على الفرد أن يحتفظ بما هو ثمين واساسي لحياته ولذلك فان شعور الملكية ضعيف عند البدو، او فلاقل بعبارة أخرى أن البدو لا يبالون تماما بان يملكوا . يقال ان الحاجة للانتقال موجودة في دم البدو. ولذلك كان لا بد أن يترسخ ذلك كله في حياتهم الروحية لقد حصلوا على روحهم الابداعية الخاصة من خلال تجربة الحياة في المكان الصحراوي.
حياة البدو مكتملة؛
لماذا لا يطور البدو حياتهم؟ لانهم يعتقدون أنها مكتملة لا ينقصها شيء واية اضافة ستكون تنازلا او انتقاصا من حياتهم وسأوضح ذلك باختصار شديد. الطعام عند البدو بسيط للغاية وكانه وسيلة لاستمرار الحياة. فليس فيه اي مظاهر للترف، او الاستمتاع او الهدر والطعام نوعان اليومي العادي والوليمة فالطعام العادي عبارة عن خبز الصاج واللبن فقط. العشب لا ياكله الانسان مباشرة انه يتناوله بعد أن يتحول الى لبن في هذه الحياة البسيطة حكمة عميقة حيث يحقق الانسان كل ما يحتاج اليه. اما وليمة – المنسف فانها لذيذة بشكل يفوق تصور اليابانيين على الاقل.
لقد عرفت ذلك من مشاركة البدو في طعامهم. ومن المهم هنا ان اذكر طريقة البدوي في تناول طعامه انه ياكل بصمت وبسرعة كبيرة وبلا توقف. ومما يجدر الاشارة اليه هو أن مكان تناول الطعام ليس مكانا اجتماعيا للحديث والمسامرة كما هو الامر في المدن اليابانية او العربية. أن الاكل عملية مقدسة للبدوي – فيما اقدر لانه يضمن استمرار الحياة المنسف لا يقدم الا في مناسبات قدوم ضيف او الاحتفال بعيد أو مناسبات خاصة. ذلك أن المنسف نفسه يستهلك جزءا من مال المضيف المحدود
اما بالنسبة للملابس هناك العباءة المشهورة والعملية للغاية في حياة كحياة البدو في الشتاء يـأن يرتدي البدوي الفروة تحت العباءة وكلتاهما تحمي الانسان من الموت عندما يضطر لأن ينام في غراء الصحراء حتى عندما يكون البرد في أعلى درجاته. ذلك اللباس العملي البسيط ينطوي علي ثقافة روحية عميقة وعلى رضا داخلي لا يضاهي.
يقال الخيمة بيت كبير والعباءة بيت صغير في الشتاء يسكن البدوي خيمة مصنوعة من الوبر وفي الصيف يسكن في خيمة مصنوعة من القطن. وتلك الخيمة الشتوية تحمي البدوي من المطر والهواء بشكل كامل وعلاوة على ذلك فان شكلها البسيط جميل ومرتب ولا يحتاج الى اية زخرفة أو زينة وأخمن ان جمال الخيمة يكمن في الجانب العملي منها وفي البساطة الرائعة ايضاً. الحياة البدوية نمطية، ولذلك تنجز وتتم على نحو بسيط وعملي ومتشابه. فالناس جميعا يرتدون الملابس نفسها ويأكلون الطعام نفسه ويسكنون الخيام ولا وجود حتى لشخص واحد يتصرف بصورة تخالف السلوك العام للبدو.
تلك الحياة البسيطة في الطعام والسكن واللباس يعتبرها البدو حياة كاملة مكتملة لا تحتاج لان يغيروا منها قيد شعرة من المدهش للمراقب المتمدين ان البدوي لا يطلب الادوات التي توفر له الراحة، ففي العادة نعتبر الناس الذين لا يحاولون البحث عن التقدم والتطور في أساليب حياتهم، نعتبرهم کسالی او متخلفين، أي ننعتهم بصفات سلبية ولكن الذي يحدث احيانا ان الناس يبحثون عن الاشياء بلا حدود وأولئك الذين يلهثون وراء الحاجات الاستهلاكية يفقدون القدرة على رؤية المعنى الحقيقي والفعال للاشياء نفسها، ولذلك لا يقنع ذلك النوع بما يملكون رغم ضخامته وعندما نراقب ذلك بعناية لا بد أن نتساءل: لقد أحاط الانسان نفسه بالوفرة اكثر مما هو ضروري وأكثر مما ينبغي الا يعني ذلك ان الانسان يبتعد عن فهم جوهر العلاقة مع الاشياء؟
ان حياة البدو تنبهنا نحن الغارقين في الحياة الاستهلاكية وتفتح عيوننا على ضرورة مراجعة حياتنا وعلى ضرورة النظر بعقل ناقد متسائل في اساليب العيش التي تسيطر على مجتمعاتنا . أسارع فأقول: لقد أضاف البدو في استعمالهم أدوات هي من خارج الحياة البدوية . وبصورة خاصة البندقية والسيارة البندقية تحل مكان السيف والرمح والسيارة تغني عن الجمل. هل اختارهما البدو كاداتين عمليتين للحفاظ على الحياة؟ ربما كانت المسألة أبعد من مظهرها البسيط. ولكنني لا أريد أن أتكلم كمورخ او كانثروبولوجي. انني اتحدث عن الثقافة كمنظومة قيم متكاملة. وهذا بدوره يقودني الى الحديث عن الشخصية البدوية.
الشخصية البدوية
يتابع نوتوهارا : كتب الباحث الكبير جمال حمدان في كتابه الرائع “شخصية مصر” البدوي يختلف عن المستتر وراء الجدران والابواب فالبدوي يواجه الطبيعة مباشرة ويتصل بها بلا انقطاع من هذه المواجهة وهذا الاتصال تكونت شخصيته الفريدة. لقد استيقظ احساس البدوي. كان لا بد أن يكون احساس البدوي صلبا وقويا . بالاضافة الى الاحساس القوي، احتاج البدوي الى الصبر. ولكن الصبر
الذي يحتاجه هو غير الذي نعرفه نحن المستقرين انه صبر يتجاوز خود صبرنا وقدرتنا، صبر تجاه الطبيعة وهو مع ذلك – غير منطقي من تجربتي المتواضعة في الحياة مع البدو عرفت انني – انا الذي تربيت في حضارة الاستقرار – لا أملك قوة الصبر مثل البدو وكمثال بسيط للغاية فانا لا أستطيع أن أجلس في الخيمة نهارا وأنتظر غروب الشمس كي تبرد الارض بعد ساعات ويهب النسيم المنعش ولكن البدو يستطيعون أن مثالا بسيطا كهذا يقودنا على الفور الى الثقافة والى الصناعة بصورة خاصة فالصناعة قدمت لنا منتجات تحمينا من الطبيعة ومنتجات تبعد عنا الاشياء المزعجة ولذلك عندما نتكلم عن الاحساس في اليابان مثلا فاننا نتحدث عن رقة الاحساس ولكن ظروف المكان الصحراوي تدمر رقة الاحساس هذه عند الانسان.
في الجزء الأول من خماسية “مدن الملح يقدم لنا عبد الرحمن منيف شخصية فريدة هي متعب الهزال الذي يمثل البدوي النموذجي؛ متعب الهزال يتمتع بصبر رائع ولكن يتوسل الى الله لكي يعطيه أكثر. عندئذ يستطيع ان يحصل على مكان حيث يتحمل الحياة وحيدا بعيدا عن تدخل الآخرين.
كما يختلف مفهوم الصبر عند البدو عن مفهومنا فان مفهوم الخير ايضا يختلف. فالخير عند البدو يعني المطر. فالمطر هو الامنية القصوى للبدو لانه يعيد وفرة الاعشاب. نحن نفهم أن يعتمد البشر على ارادة الله فيما يخص المطر ولكن لماذا يطلب البشر من الله أن يمنحهم مزيدا من الصبر؟ هذه النقطة بالذات مختلفة جدا عن تفكيرنا نحن البوذيين أو الشنتويين في اليابان. فالمسلمون بهذا المعنى يطلبون من الله الصبر لكي يحققوا أقصى نتائج الجهد، بهذه الطريقة يمكننا أن نفهم الافكار الاسلامية التي تختلف عن افكارنا في اليابان على سبيل
المثال.
هناك مسألتان مهمتان لمن يعيش في الصحراء الأولى هيا الصبر، والثانية هي الحيلة الحيلة مهمة للغاية في ظروف حياة كهذه. والحيلة هنا معناها الترتيب والتدبير والتطبيق مرة اخرى ساضرب مثالا بسيطا للغاية البدوي يلبس العقال
لكي يثبت الكوفية على رأسه، ولكنه يستخدمه في ظروف تفرض عليه لاغراض اخرى، فالبدوي قد يربط الحبل بالعقال، وقد يستخدمه حبلا طويلا لرفع الماء من البئر حين لا يجد حبلا والحياة بالنسبة للبدوي هي أن يتدبر القليل الذي يتوفر له لمواجهة مشاكله الطارئة، أما نحن اليابانيين فعلى العكس من ذلك نجد الكثير من المؤسسات الخاصة التي تستخدم خبراء ليقدموا لنا “الحيلة” عندما نحتاج بدلا من أن نتدبرها بانفسنا .
ما تعلمت من البدو
الذين يضطرون، أو يختارون العيش في ظروف جغرافية حيث تكون الموارد المتوفرة قليلة، وحيث يفتقدون حاجات كثيرة، أولئك لا بد ان يختاروا أساليب حياة تناسب مع ظروفهم تلك. وعلى العكس من ذلك فان المستقرين يبحثون دائما عن بدائل جديدة وهم يبحثون حقيقة عن الترف. لقد أكد عديد من المفكرين والكتاب العرب على أن البدو يقنعون بالحاجات الاساسية الضرورية، ونحن نعرف جميعا نظرية ابن خلدون في دورة حياة الدولة، ونعرف آراءه العميقة في البداوة.
في اعمال ابراهيم الكوني نجد صورا واقعية متنوعة عن شظف الحياة في الصحراء. فعندما يستمر المحل الجفاف بضع سنوات فان الاغنام – على سبيل المثال – تأكل مرة ثانية البذور التي طرحتها في سنوات سابقة عندما كانت الاعشاب متوفرة، وفي مثال اخر يقدمه الكوني نرى صحراويا يشوي حذاءه وياكله وحادثة كهذه ليست نادرة في الصحراء، خاصة في سنوات المحل. والأمر من ذلك أن سيدات من الطوارق في قمة الجوع يجمعن روث الغنم ويغسلنه وياخذن الحبوب غير المهضومة لكي يعددنها من جديد ليأكلها البشر! هكذا تهدد الصحراء ساكنها بالجوع النهائي.
ولكن الانسان تحت ضغط الحاجة القاتلة يكتشف المعنى الجوهري للبضائع والمعنى الحقيقي للبقاء، يكتشف قيمة فنجان ماء او قطعة خبز للحفاظ على الحياة يوما آخر أنهم بدو وليسوا مستقرين ليملكوا دائما فائضا يحتفظون به ومن السخرية ان الذين يملكون ما يزيد عن حاجاتهم يبحثون عن الفائض اكثر واكثر ، ويتركون مسافة بينهم وبين الآخرين الذي ينافسونهم في تكديس الثروات. وهكذا تصبح الروابط اضعف فاضعف وينخفض حجم الصلات الانسانية فيما بينهم ولكن البدوي في حالة الفاقة القصوى يقترب من المعنى الجوهري للاشياء دون أن يضر نفسه، ودون أن يفقد روابطه بالآخرين مثل المستقرين. المستقرون يبحثون عن الكمية والبدو يبحثون عن الكيفية البدوي يسأل كيف؟ والمستقر يسأل كم؟ وبناء على طبيعة السؤال والاهتمام تختلف الاهداف والغايات.
في القرآن الكريم تنص الآية “وجعلنا من الماء كل شيء حي”، أي كل شيء فيه حياة يولد من الماء، والبدو هم أكثر من يدرك هذه الحقيقة ادراكا حقيقيا عميقا . ورغم شظف العيش، وشح الماء فان البدوي يقدم الضيافة لمن يحتاج، أي انه يرحب باقتراب الاخرين منه على العكس من المستقر الذي يبعد نفسه عن الآخرين والبدوي يهمه جدا ويرضيه ان يصفه الاخرون بالكرم. فالكرم بهذا المعنى دعوة مفتوحة للعلاقات الصحيحة مع الآخر، وترحيب صار بالتواصل فيه الاخر، وبهذا المعنى ليس أنانيا على العكس من المستقر الذي يحصر استعمال ثروته بنفسه فقط، وهو لذلك يبعد عنه الآخرين.
عندما نسأل البدوي؛ ماذا تفعل عندما تفقد كل شيء؟ فانه يقدم جوابا صريحا واضحا أعتمد على الصبر , نحن نجد مفهوم الكرامة عن العرب بعامة، ولكننا نراه في اشكال متعددة وعملية عند البدوي، نراه في هموم الشرف. واخلاق البدوي وفي الضيافة والفخر وحب اظهار الذات وإرادة اظهار الشجاعة وفي تجنب العزلة وغيرها من مظاهر الاخلاق البدوية، لذلك ليس عند البدوي اسرار ليكتمها، ويخفيها عن البدو الاخرين فكل شيء معروف من قبل الجميع وأكاد أجزم ان البدو ليس عندهم اهتمام جدي بالخصوصية السرية. استطرد قليلا وأضيف من تجربتي في البادية السورية. في العلاقة مع الاء.
يبدو الكرم أكثر أهمية وتصبح الضيافة دعوة مفتوحة للتواصل منذ عشر سنوات، انا اعرف ابا عبد الله من بني خالد ولقد اكتشفت . عبر هذه المعاشرة الطويلة ان البدو لا يختارون ضيوفهم مثلنا نحن المستقرين البدوي يستقبل الجميع بلا تمييز اي انهم يقدمون الضيافة من اجل الضيافة ليحققوا في الممارسة روح الضيافة. لقد وجدت في كلمة “الكرم معنين؛ العطاء والنبل. فالكريم نبيل ايضا لكي يكون البدوي كريما فان عليه أن يتصرف تلقائيا ، من الصعب على البدوي ان يمنع نفسه عن ممارسة الكرم وفهمت ايضا الكرم نقيض البخل، في اليابان نستخدم كلمة البخل بين الاصدقاء بصورة عادية وأحيانا ايجابية، اي بمعنى اقتصادي تحديدا، ولا نحملها معنى سلبيا ، اما عند البدو فان البخل ليس فيه أي معنى ايجابي على الاطلاق
لقد اكتشفت ان لدى البدوي ميولا لكي يواجه قضايا أكبر منه. فعلى سبيل المثال، الفلاحون في مصر يحافظون على حياتهم. ولا يضحون بانفسهم الا في حالات شديدة الخصوصية وهم يثقون انهم اذا حافظوا على حياتهم فانهم سيحصلون على افضل النتائج. لقد أدهشني اكتشافي ان البدوي يتحدي ما هو فوق قدرته ويعرض حياته للخطر ويضحي في سبيل ما يعتقد انه المثل الأعلى بكلمات اخرى البدوي لا يصر على حماية حياته عندما يواجه خطرا والسبب في ذلك شعوره ومبادؤه ولذلك يقدر البدو هذه السلوك تقديرا كبيرا ومن لا يندفع في مواجهة الخطر يحكم عليه البدو بانه جبان ويختم بختم جبان والبدوي يخشي دائما ان ينعت بصفة جبان.
من الطريف اننا نجد احيانا في المدينة بدوا أعني افرادا اخلاقهم كما اخلاق البدو يتباهون بالشجاعة وينفرون من الجبن كانه طاعون قاتل وبالطبع نجد بين البدو من اخلاقه كاخلاق اهل المدن اذكر هنا على سبيل الدعابة الغريبة حادثة صغيرة مع الكاتب المغربي المعروف “محمد شكري” انني اقدره واحترمه واحبه وهو يعرف ذلك جيدا. محمد شكري يعيش في طنجة وكان يحب سيدة انكليزية تدير مطعما، وكنا دائما نزور ذلك المطعم وفي كل مرة كان يحمل باقة من الورد
لتلك السيدة دون أن يصرح لها مباشرة بانه يحبها . اذكر كنا نجلس في مقهى باريس نتحدث عن حبه هذا وعلقت مازحا انت لا تصارحها لانك جبان انتفض محمد شكري كمن أصابه بركان ووقف فجأة وقال لي بغضب ما بعده غضب انا جبان؟ لقد صعقني رد فعله لاني لم أتوقع أن تجرحه الكلمة الى هذا الحد. كان يرتجف كله لقد تغيرت ملامحه وظهر بريق غريب في عينيه عندئذ رحت أوضح له قصدي بهدوء ولطف لقد احتجت نصف ساعة تماما لأقنعه ان الامر بكامله دعابة وبالطبع لم تؤثر تلك الحادثة الصغيرة على صداقتنا . محمد شكري بهذا المعنى الاخلاقي كان بدويا ينفر من صفة جبان.
من تجربتي في البادية عرفت معاناة الضجر والملل. وعرفت مرارة مرور الوقت الفارغ الا من الجلوس والانتظار. البدو عندهم وعي خاص بهم لمجرى الوقت، انه مفهوم مختلف عن الساعة اليوم الاسبوع وهكذا. أنهم يعيشون في ديمومة وقتهم الخاص حيث تنمو الاعشاب وترعى الاغنام، عندما يقيم مدني مع البدو وهو يحمل معه وعيه للزمن فانه سيجد نفسه قلقا وسيتضاعف قلقه . مرور الوقت البدوي يرشف القهوة أو الشاي ويتمتع بالحديث دون أن يشعر مثلنا بالقلق بسبب مرور الوقت البطيء.
وتلك الحياة تتكرر برتابة دون أي تغيير يذكر من الخارج. ولكن الغريب في ذلك بالنسبة لي هو ان البدوي يعيش كل يوم كيوم جديد ولكي نفهم هذه النقطة، علينا ان نفهم دور ا الطبيعة اولا لكي ندرك هذا السر في حياة البدو نحن المدنيين عندما نزور البادية نحكم عليها من الخارج حسب وجهات نظرنا الخاصة من حيث هل هي مريحة أو غير مريحة ولكننا لن نستطيع أن نفهم البدو على هذا الاساس البدو يعتبرون ارض البادية ضمانا لحياتهم بصورة اساسية ونهائية
نحن نعرف الطبيعة الصحراوية تعرض البدو للعجاج والجفاف والصهيد والبرد القارس. ولكنهم اختاروا البادية بلا اكراه فلابد ان يكون لديهم شيء خاص يدفعهم ليواجهوا الطبيعة، ويتحدوا ويتحملوا ظروفها في كل الاوقات. ولان البدو يتحدون قسوة الطبيعة باستمرار فانهم لا ينحرفون اخلاقيا بل يحافظون بقوة على قيمهم ومبادئهم.
تبدو حياة البدو من الخارج رتيبة مستقرة ولكن البدوي مستنفر دائما انه في حالة الحراسة المستمرة كجندي ينتظر المعركة ولكن معركة البدوي الاساسية مع الطبيعة البدو متوترون في جميع الاحوال ورغم أن حياتهم تستمر اياما بلا اي حواد ولكنهم روحيا لا يملون من التوتر النفسي، ولا يبحثون عن وسائل للتسلية لقتل، الوقت . نحن في المدينة نبحث دائما عن التسلية المؤقتة لنهرب من الضجر، ورغم كل جهودنا فاننا لا نستطيع التخلص من الضجر والملل. في هذه النقطة تتشابه حياتنا مع حياة البدو الرتيبة. فالراحة التي تشكل صفة أساسية لحياة المستقرين تؤدي الى التراخي والكسل ومن التراخي تتولد الحياة الرخوة، أن هذه المسألة ستكون واضحة بالمقارنة مع الحياة البدوية.
المستقر والبدوي مظلومان؛ المستقر سلم نفسه للاخرين لحمايته، ورضي ان يعيش تحت حماية سلطة الشرطة وسلطة الدولة لذلك فهو مظلوم من السلطة ومن قوة السلطة اما البدوي فقد حرر نفسه من السلطة البشرية ولكنه قبل ان تظلمه الطبيعة. فعندما نزور البادية في سنوات المحل نعرف الى اي الدرجات وصلت قوة الطبيعة، ووصل ظلم الطبيعة. وعندما يستمر المحل لسنوات فان البدو يهاجرون واحيانا يترك بعضهم حياة البداوة ويذهب الى المدينة ليواجه نتائج سيئة لانه لا يملك القدرة لكي يتكيف مع حياة الاستقرار.
ولكن البدو عموما يتحملون تلك الظروف القاسية ويعون أنفسهم روحيا ويتمسكون بعقائدهم اكثر واكثر. ولذلك يقال الصحراء علمت البدو التوحيد ان قسوة الطبيعة توقظ العقيدة في نفس البدوي. لقد رأيت صديقي ابا عبد الله يصلي الاوقات الخمسة كل يوم بعد سنوات من الجفاف و المحل من ذلك كله فهمت ان الطبيعة يمكن أن تدمر الانسان ماديا ولكنها لا تستطيع ان تحط من اخلاقه اذا كان بدويا حقيقيا .
اذا أردنا أن نصف الصحراء بكلمة واحدة تميزها قلنا المطلق. لذلك البدوي لا يعرف التسوية او الوسطية فلا بد ان يكون متطرفا في تحمله وفي صبره وفي اخلاقه. لا بد ان يختار اما ان يمارس وجوده حتي النهاية أو ينسحب نهائيا ولا وسط في الاختيار البدو يحترمون القوة ولكن القوة هنا هي قوة الله أولا ثم قوة “البدوي نفسه. البدوي يفخر بقوته وحياته نفسها هي اعلان عن قوته. وفي الوقت نفسه فان الشعور بالانتماء للعشيرة قوي كما هو معروف.
لقد اختفى الغزو من البادية لاسباب كثيرة لست في مجال مناقشتنا ، ولقد اختفى القسم الاكبر من مظاهر الفروسية ولكن المواجهة مع الطبيعة ما زالت هي هي , البدوي في خيمته عليه واجبان دائما استقبال الضيوف بارادته ورد الاعداء. والذي لا يستطيع أن يرد على من يعتدي عليه ويهجم على خيمته يعتبر مبتذلا عند البدو ويفقد صفته كرب أسرة، وصاحب بيت وبالاضافة الى ذلك لدى البدو مفهوم الدخالة والجوار، أي قبول من يدخل تحت حماية البدوي واستقبال الآخر کجار مسؤول عن جيرته , هنا يكون الاختيار واضحا بارادة صاحب الخيمة. وفي هذه النقطة بالذات نتعلم نحن شيئا مهما وفريدا من ثقافة أخرى مختلفة عن ثقافتنا”
ويختتم “نوتوهارا” وجهة نظرة بقوله “البدو هم مظلومون ولكنهم اختاروا الصحراء، وتحدوا الطبيعة فازدادت قوتهم روحيا وجسميا، الهجرة الدائمة في دمائهم ولكنهم تعلموا من الصحراء كم الانسان صغير وضعيف وتعلموا منها ايضا الاعتقاد بقوة وطاقة فوق قوة البشر. عقائدهم بسيطة نقية ومباشرة. لا يسعون وراء البضائع ولا ينمون رغبتهم في الملكية فقد علمهم الجفاف ان الملكية قضية فارغة وتعلموا من الطبيعة ايضا الا يلهثو اوراء الحاجات عندهم الماء والعشب والنار ملكية عامة لانها ملك الله، تلك عقيدة منتشرة في البادية والمهم هو حق الاستخدام وليس الملكية ؛ من يستخدم ومتى يستخدم؟ مقتنعون بالحاجات الضرورية ولا يدخرون اشياء كثيرة.
وعندما يواجهون الحاجة الملحة يتغلبون عليها بالصبر يردون العدوان ويستقبلون الضيوف هم خشنون وبريون وانفعاليون. دائما يفكرون بالمثل الأعلى ويستجيبون للجواب ويضحون بانفسهم عندما يدعوهم داعي المثل الأعلى. يقبلون من يطلب الحماية، ويراعون حرمة الجار. يحترمون شجرة النسب ويميزون انفسهم بالانتماد الى انسابهم. وليس وعي الانتماء عندهم مسافة تاريخية، يحتقرون الاعمال اليدوية والحرف العملية كالزراعة مثلا ولكنهم يقدرون التجارة ويمارسونها في قوافل لهم كبرياؤهم التي يقدرونها كصفة ايجابية يستجيبون تلقائيا لمحو ما يعتبرونه عارا . وعي الشرف عقيدة عندهم ولكنهم قابلون بحياتهم وبيئتهم ومبادئهم قبولا كاملا مكتملا انهم البدو ثقافة اخرى فريدة وعالية”