العشائر السوريّة خزّان البارود
تعود العشائر السورية اليوم إلى المشهد السياسي، بعد تراجع دورها المباشر طوال نصف قرن، وصار لا يخلو اجتماع للمعارضين من رموز عشائرية تنتمي إلى جميع المناطق، يترافق مع حديث عن ضرورة إشراك العشائر في الحراك الاحتجاجي. ورغم أن بعض المشاركين في مؤتمر أنطاليا للمعارضة السورية أعلنوا ولادة ائتلاف للعشائر السورية، تعارض بعض الرموز العشائرية هذا التوجه من ثلاث زوايا: الأولى أن تمييز العشائر على هذا النحو يضر بالوحدة الوطنية ويهدد سلامة المجتمع السوري الذي انصهرت مكوناته بعيداً عن العامل السياسي.
والزاوية الثانية، أن هناك أطرافاً سياسية تحاول أن تستثمر ورقة العشائر في مواجهة مسلحة مع النظام، لأهداف حزبية، وهذا أمر من شأنه أن يضر بالحراك السلمي ويخرجه عن مساره، ويفتح الباب أمام نزاع أهلي. أما الزاوية الثالثة، فهي أن أبناء العشائر جزء من الحركة السياسية العامة في سوريا، وكانوا على الدوام يشاركون فيها من منطلقات أبعد ما تكون عن العصبية القبلية، وهناك رموز عشائرية بارزة اليوم في الحركة الاحتجاجية، ليس بصفتها العشائرية.
تنتشر العشائر السورية في مناطق الأطراف والبادية، وتكوّن ما يشبه السور الواقي جغرافياً من الجنوب في درعا والسويداء، مروراً بالوسط حيث ريف حماة وحمص وحلب والرقة، وصولاً إلى الجزيرة العليا التي تتكون من محافظتي دير الزور والحسكة. وتعد درعا والرقة ومنطقة الجزيرة ذات تركيبة عشائرية بحتة، ولا تزال تقاليد العشائر وأعرافها وقيمها سارية المفعول، لكن تحت سقف الدولة، لا خروجاً أو موازاة لها، كما هي الحال في بعض البلدان مثل اليمن. بناءً علىه، انخرط أبناء العشائر في مسيرة التعليم ودخلوا مؤسسات الدولة، وبرزت منهم شخصيات سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية، رغم أن هذه المناطق الغنية عانت التهميش الرسمي والتمييز على مستوى مشاريع التنمية الكبرى.
في درعا تهيمن على المشهد عشيرتان كبيرتان، هما الزعبي وبازيد، اللتان ضربتا المثل في مقاومة الاستعمار الفرنسي، ونصرتا الملك فيصل الأول لكونه نجل الشريف حسين صاحب مشروع الحلم العربي، ووقفتا إلى جانبه في صورة أساسية عندما قرر الجنرال غورو ترحيله من سوريا في تموز 1920، وكان لثورتهما على أعوان الفرنسيين الدور الكبير في إشعال الثورة السورية الكبرى التي قادها الشيخ سلطان باشا الأطرش المنحدر من بني معروف.
وتقول الوقائع التاريخية إن الأطرش قرر إعلان الحرب على الفرنسيين سنة 1922 في لحظة نخوة عشائرية، عندما اعتقل الفرنسيون في منزله، نتيجة وشاية، الثائر الجنوبي اللبناني أدهم خنجر، الذي أطلق النار على الجنرال غورو في القنيطرة سنة 1921. وتجد عشائر جنوب سوريا امتدادات لها مع عشائر الأردن والسعودية، وصولاً إلى لبنان. ومنذ أكثر من قرنين من الزمن تمددت عشائر سهل حوران خارج حماها، فعبر المسيحيون والدروز في اتجاه لبنان، وذهب المسلمون نحو الفضاء البدوي الواسع في اتجاه الخليج عبر الأردن، وهناك الكثير من العائلات والبيوت الكبيرة في لبنان والخليج تعتز بأصولها الحورانية، وانتسابها إلى قبائل عربية قديمة مثل الغساسنة.
على الجانب الآخر، تمثّل البادية خزان العشائر التي ظلت تتنقل تبعاً لمصادر الماء والكلأ، بين الشامية ونجد والحجاز. ومن أبرز قبائل البادية السورية النعيم والحديديين والفواعرة، بالإضافة إلى عشيرتي شمّر وعنزة. لكن شمّر، التي نزحت رموزها الكبيرة في أوائل القرن الماضي من حائل بعد الصراع مع آل سعود (قبيلة عنزة)، كانت تسيطر أساساً على المنطقة الواقعة ما بين سوريا والأردن والعراق والسعودية، وصولاً إلى الكويت، وكان طرفها السوري بزعامة فواز الشعلان في البادية السورية ودهام الهادي في أقصى الجزيرة، وعجيل الياور في العراق، الذي أدى دوراً أساسياً في ثورة العشرين على الإنكليز إلى جانب رشيد عالي الكيلاني، حتى إن المقيمة الإنكليزية في تلك الفترة في بغداد، غروترد بيل، الملقبة بـ«الخاتون»، أفردت له فصلاً كاملاً في مذكراتها تتحدث فيه عن شخصيته الكاريزمية.
وحاول فواز الشعلان أن يؤدي دوراً سياسياً بعد استقلال سوريا، وكان على صلة بالملك عبد العزيز آل سعود الذي حمله هدية نقدية كبيرة، هي عبارة عن عدة أكياس من الليرات الذهبية للرئيس السوري شكري القوتلي، فكان أن رد القوتلي الهدية، وقال إن سوريا ليست للبيع. ومن يومه عرفت العشائر قاطبة الحدود التي يجب أن تحترمها إن أرادت الحياة داخل سوريا، ولم يكن الأمر سهلاً في حينه، فقد كان الملك عبد العزيز يعدّ نفسه زعيماً على كل من يضع على رأسه الكوفية والعقال، وكان من الجبروت حتى شاع المثل البدوي “الله أقوى من ابن سعود”.
في الجزيرة السورية العليا يختلف أمر العشائر لأسباب تتعلق بعوامل الاستقرار، ومنها الماء. فهذه المنطقة الواقعة بين نهري الفرات ودجلة تعد ذات طبيعة ومزاج خاصين؛ فهي من جهة تمثّل إحدى أقدم الحواضر في سوريا، وهناك آثار تعود إلى العهد السابع قبل الميلاد (تل بيدر بقرب الحسكة يعود العهد المؤابي)، وتل حلف الأثري بالقرب من راس العين عُدّ معياراً عالمياً يعرف بـ”عصر تل حلف” , وعلى هذه الأرض أخذت البداوة صبغة أخرى، حيث وجدت قيمها حاضنة تاريخية صاغت الوجدان بشعور وطني أساسه الأرض التي تقدست بعد ذلك بالديانتين المسيحية والإسلامية. ومن هنا يتحول أبناء هذه المناطق مقاتلين أشداء حين يتعلق الأمر بالأرض والماء.